دار مـصحــف إفـــريقـــيـــا ( الـكـوكــب الــدُرَّي )

الطــباعة الـقـرآنية

مثلهُ مثل الإشراقات التي فجَّرتها مسيرة التوحيد السماوي الذي رفع رايته الإسلام في عهد النبي الأمي الأمين صلى الله عليه وسلم ، إنبلج في سطوعٍ باهر هذا الحُلم في قلوب نفرٍ ألهمهم الله نقاء السريرة وصدق التوجَّه نحو عمومية الفائدة وإتساع مواعينها مثلما كانت ماثلة في خصوصياتها الفردية التي تحتويها العبادة والتقرُّب إلى الله عز وجل  بصالح الأعمال وصادق النوايا والتوكُّل المطلق على العلي القدير ، فقد كان طموحهم ينبع من حيث تبدأ فكرة المساهمة الفاعلة في نشر دين الحق وتوفير معينات الإنكباب عليه بلا منافس في قارةٍ ما زالت تتلَّمس شعوبها الإسلامية دروب التشبث بالقرآن كوسيلة ٍمقدَّسة للتعبير عن آمالهم في أن تكون لهم اليدُ الطولى في رفد المد الروحي و الدعوي الإسلامي في إفريقيا المحاصرة بالكثير من المخاطر التي تحيط بمسيرة الدعوة القاصدة لوجه الله تعالى وفي أذهانهم و أفئدتهم أيضاً  أمنياتٌ ماثلة للإنسان الإفريقي الذي ما زال مُتمسَّكاً بمُقدَّسات الدين الحنيف رغم الهجمات الشرسة التي حاولت التأثير على حركة الدعوة الإسلامية الأولى في القارة السمراء قبل قرون من الزمان ، مستعملةً فيها جحافل المناوئين للإسلام في إفريقيا القوة الإقتصادية والإعلامية والفكرية إبان الحقبة الإستعمارية ، مما جعل أمر وصول المصحف الشريف إلى كثيرٍ من المناطق النائية في إفريقيا أمراً عسيراً وصعب المنال ، وحتى زماننا هذا ما زال المصحف في بعض المناطق الإفريقية يعاني شُحاً كبيراً من حيث الكم والكيف ، ونقصد بالكيف أن تتواكب القراءات الواردة في المصاحف الموجَّهة لإفريقيا مع ما يناسبها من إرث قرآني خاص بتلك المناطق وما يتواجد فيها من أشكال للقراءات  .

لذا كان من المنطقي أن ينبلج من أرض السودان هذا الحلم الكبير الذي لم يكن أحد يشُك أبداً  في أنه سيظل محروساً بالعناية الإلهية  وأنه أيضاً سيكون مدعوماً بفضيلة الإخلاص و العزم و الصبر الذي تميَّز به الرعيل الأول الذي تولى تحويل هذا الحلم إلى حقيقة ماثلة  ، و قد كان ما تُعانيه شعوب القارة الإفريقية من صعوبات في الحصول على المصحف الشريف وفق القراءات السائدة  هاجساً يؤرق ثُلة من الذين توافقوا على أن يبدأوا في تدشين هذا المشروع الرسالي العظيم بالعزم و التوكَّل على القادر الذي  لا يخذل عباده الصادقين ، و لما كانت الطباعة القرآنية في حد ذاتها منظومة فنية لم يسبق التعاطي معها إلا في مطابع خادم الحرمين الشريفين في المدينة المنورة ، كانت الصفحة بيضاء في مجال فكرة إنشاء مؤسسة طباعية قرآنية في إفريقيا فيما يتعلَّق بوضع المعايير والأدوات الفنية المناسبة لطباعة مصحف يتوافق في مواصفاته الفنية و العلمية مع ما تتطلبه القارة الإفرقية من خصوصيات بيئية وثقافية وفقهية ، ثم من قبل كل ذلك تم إقرار رسالة دار مصحف إفريقيا  لتكون معنية في المقام الأول بطباعة ونشر المصحف الشريف وتوزيعه في إفريقيا بحسب المؤشرات الناتجة عن الدراسات الأولية التي تُحددها إحتياجات المسلمين في إفريقيا ، ثم إضافة أهداف أخرى تتعلَّق بنشر المصحف عبر الوسائط الإلكترونية و الوسائل الإعلامية المسموعة والمقروءة  تعميقاً لمفهوم الدور الدعوي الإسلامي الذي تتبنَّاه الرؤية الأساسية للدار.

وفي العام 2000 تم إفتتاح دار مصحف إفريقيا بعد أن تبرعت حكومة السودان بقطعة الأرض وتصدي مجموعة من الخيرين من داخل السودان وخارجه لتمويل المشروع ، و بذلك أصبح حلم أولئك المخلصين الذين أطلقوا الفكرة قد بدأ خطواته الأولى في أن يكون واقعاً ملموساً ، غير أن الأمر في البدايات لم يكن يخلو من المشكلات و التحديات ، كان أهمها إرساء قواعد ثابتة وفعَّالة لترسيخ ما يمكن أن نسميه إصطلاحاً ( الطباعة القرآنية ) ، و التي تنضاف عبر معايير جديدة إلى المجموعة الثابتة لأدوات صناعة الطباعة التي لم تكن يوماً تخلو من تعقيدات ، إذا ما نظرنا إلى مستوى الجودة القريب من حد الكمال الذي تتطلبه طباعة القرآن وهو أسمى ما يمكن أن يُطبع على وجه البسيطة ، فضلاً عن هذا فإن تعدُّد القراءات في شتى أنحاء القارة الإفريقية كان مطلباُ علمياً وفنياً يجب أن تتصدى له إدارة الدار و طاقمها الفني والعلمي حتى تؤتي ثمارها بدقة وفعالية في مجال نشر المصحف في القارة السمراء ، ففي كثير من المناطق الإفريقية لم يكن هناك من خيار غير مصحف المدينة المنورة و الممهور برواية حفص عن عاصم ، ولا زالت الكثير من المناطق الإفريقية تقرأ برواية الدوري، وورش ، وقالون ، وما زالت بعض تلك المنطق تتطلع إلى قائمة متكاملة أو معقولة من التراجم القرآنية بلغاتها المحلية السائدة خصوصاً في نطاق المصاحف المُفسَّرة وأحكام التجويد القرآني .

والطباعة القرآنية هي إضافة آلية علمية لمنظومة العمل الطباعي متعلِّقة بتحقيق الشروط الشرعية والعلمية لمحتويات الشكل والمضمون في النص القرآني ، وتتلخص أهدافها في إيصال المصحف الشريف إلى المُتلقي خالٍ من العيوب النصية والتحريفات وإختلاط الروايات وذلك عبر عدة خطوات أغلبها تدور في فلك جودة النص القرآني وشرعيته ومطابقته للرواية و خلوِّه من الشوائب التي تُحدثها البيئة التشغيلية وحركة الأيدي الفنية أثناء التنفيذ .

الطباعة القرآنية تتميَّز بعد إحتوائها  على السِمات والشروط الفنية التي يتطلبها العمل الطباعي كصناعة متعارف عليها ، بأنها تعمل على  ترتيب و تحقيق إجراءات حماية النص القرآني عبر ما يمكن تسميته  بمنظومة الإجراءات العلمية التي تشرف على صحة النص القرآني وتطابقه مع الطلب والحاجة التي من أجلها تتم الطباعة ، وتمثل الإدارة العلمية في دار مصحف إفريقيا على المستوى الهيكلي الجهة المُكلفة والمسئولة عن تحقيق الأهداف السابقة والمتعلِّقة بالنص القرآني ، حيث يقف على هذه الإدارة مجموعة من المتخصصين في علوم القرءات والروايات القرآنية ، يبدأ دورهم من مرحلة إعداد الرواية ومراجعة رسمها وتأكيد صحتها ، ثم إجازتها ، ثم يمتد هذا الدور ليشمل الرقابة على النص القرآني أثناء مراحل التشغيل الطباعي لحمايته من التغييرات والتشوهات التي تخُلُ بقواعد صحته نتاجاً لأسباب فنية قد تحدث أثناء التنفيذ ، وهي أيضاً أي الإدارة العلمية مسئولة عن تطوير عمليات الإعداد القرآني الطباعي بتحقيق البحوث والدراسات الداعمة لهذا المنحى في الإطار العلمي لطباعة القرآن الكريم.

و بذلك يبرز الإختلاف بين المصاحف التجارية الموجودة في الأسواق وبين مصحف دار مصحف إفريقيا ، فهو يتميَّز بالإعداد العلمي المتخصِّص الذي يُتيح التعديل والتغيير والتحسين المستمر في كل طبعة كلما إحتاج الأمر إلى ذلك ، وهو في ذات الوقت مُراقب ( كنص ) وليس كطبعة متكاملة أثناء التشغيل بما يتيح أيضاً التعرف على الأسباب والأحوال التي يتعرَّض فيها النص القرآني فنياً للضرر ومن ثم محاولة تلافيها أو على الأقل إكتشافها في المراحل الأولى ، ثم إن أمر توخي جودة وصحة النص القرآني بأعلى مقاييسها لا يقف عند هذا الحد ، إذ أن مصحف الدار تتم مراجعته مراجعة شخصية مرتين بعد أن يصبح مُنتجاً تاماً ، ولا يتم توريده للمخازن وإعتباره منتجاً تاماً إلا بعد أن يُدمغ بختمي المراجعة الأولى والثانية .

و بهذا تكون الطباعة القرآنية منظومة فنية مُستقلة لا تتوفر أدواتها لدى كافة المطابع التجارية ، لعدم إحتوائها على متخصصين يتعاملون مع النص الطباعي فقط ويقومون في ذات الوقت بنقده علمياً وفنياً وفحصه وإجازته ثم مراقبته أثناء الطباعة  ، فالطباعة التجارية تتعامل مع المطبوعة كوحدة متكاملة تشمل القياسات والمواصفات المطلوبة والنصوص والصور والألوان وفرعيات التصميم المصاحبة ، ولا يخفى على المتلقي لهذا الشرح أن إضافة البُعد العلمي لطباعة المصحف الشريف يُمثل عاملاً قوياً في رفع تكلفة إنتاجه نسبةً لحجم الكوادر التي تعمل في ذلك وندرة تخصصاتهم ، هذا فضلاً عن تعدَّد مراحل الإعداد والإجازة والمراقبة ، يُضاف إلى كل ذلك أن عمليات الرقابة على النص القرآني أثناء الطباعة التي تضطلع بها الإدارة العلمية تعتبر أكبر وأهم موجهات إرتفاع التالف التشغيلي لعمليات الطباعة بما يتضافر إيجاباً مع أهداف الجودة المنشودة عبر آلية تحييد التالف .

إستطاعت الإدارة العلمية في دار مصحف إفريقيا وبعد عشر سنوات من بداية التشغيل أن تحقق سقفاً معقولاً في مجال إنجاز أهدافها المتعلِّقة بتطوير فرعية النشاط العلمي داخل منظومة الطباعة القرآنية وذلك عبر إنجازها وإجازتها لرواية الدوري وحفص ووّرش وقالون ، وكذلك عبر إضطلاعها وإشرافها على طباعة جزء عم بلغات إفريقية محلية مُتعدِّدة منها الفولاني والهوسا والصوصو والسواحيلية ، وما زالت هناك الكثير من الأهداف التي تعمل عليها منظومة الطباعة القرآنية عبر الإدارة العلمية في دار مصحف إفريقيا أهمها فرعية البحوث والدراسات القرآنية ، فضلاً عن مُخطَّطات التوسع في مجال تحقيق وطباعة التراجم القرآنية للغات إفريقية وعالمية  تشتمل على المحتوى الكامل و الجزئي لنص المصحف الشريف .

هيثم عبد الحميد الفضل